الأربعاء، 16 مايو 2007

جيم جارموش رائد السينما المستقلة الامريكية


فلامي تختزل حياة الشخصية إلى لحظاتها الدرامية القصوى..المخرج السينمائيّ جيم جارموش يعد من الرواد الكبار في السينما المستقلة الامريكية مشهور بسلوكه المساراتِ الصعبة. منذ فيلمه "أغرب من الجنة" الذي أخرجه عام 1984، وصوّره بالأبيض والأسود ولعب دور البطولة فيه جون لوري، الموسيقيّ ذو الشهرة الواسعة والمنزلة الرفيعة في الأوساط الفنية.

منذ ذلك الفيلم أخذ جارموش يتّبِع بإخراج أفلام لا تلائم أحداً سواه. ّ فهو أكثر المخرجين الأميركيين استقلالية وعناداً. ولد جارموش فى 22 - 1 - 1953 بولاية أوهايو الأمريكية ، وانتقل وهو فى السابعة عشرة إلى نيويورك حيث درس اللغة الإنجليزية وآدابها من جامعة كولومبيا ، ثم درس السينما في جامعة نيويورك. و تابع دراسته بعد ذلك في المعهد السينمائي بباريس. وفى عام 1980 عمل مساعد مخرج فى فيلم "برق على ماء" للمخرجين نيكولاس راي و فيم فيندرز، ثم أخرج فيلمه الأول "أجازة لا تنتهي" عام 1982. والذي رصد لصنعه 15000 دولار فقط لاغير. وبعد جهود ونشاطات متواصلة التقى جيم بمنتج ألماني باسم /أوتو غروكينبرغر/ الذي فسح له المجال ليعمل بمنتهى الحرية ووفر له التحكم الفني الكامل على أعماله السينمائية. كانت النتيجة فيلمه المثير (أغرب من الجنة) الذي صاغه نقلاً عن أغنية سكريمر جي هوكينز (أضع التعويذة عليك) وقد فاز بجائزة الكاميرا الذهبية في مهرجان كان السينمائي 1984.. ومنذ فوزالفيلم في كان، استطاع جارموش أنْ يحتلّ مكانة في عالم ضمن ضوابط الإبداع والتسويق لا يحلم بها إلاّ القليلون من المخرجين المستقلين.

شارك في عدد من الأفلام سواء بالتصويرأو كتابة الموسيقى أو الإنتاج أو المونتاج أو التمثيل ، لكن عمله الرئيسى تركز في الإخراج وكتابة السيناريو حيث أخرج 15 فيلما كتب السيناريو ل 13 فيلما منها. حصل على 15 جائزة هامة منها الجائزة الكبرى فى مهرجان كان عن فيلم "أزهار محطمة" ، والسعفة الذهبية عام 1986 عن فيلم "سقوط بحكم القانون".

وافلام جارموش تحمل اهتماما واضحا بالثقافات الاصلية القديمة مثل الهندية واليابانية والصينية .: واذا كان جارموش نموذجاً للفنان الهامشي، فإن القدر كان قاسياً على شخصياته ايضاً، الى ان نالت نصيبها من الاستبعاد والاقصاء عن خيرات الدنيا ونعمها. من "رجل ميت" (1994) الى "غوست دوغ" (1999) مروراً بـ"قطار غامض" (1989)، شقّت مسألة البحث عن الهوية طريقها في سينما هذا الخلاّق المنهمك بتفكيك خفايا الطبيعة الانسانية. فشل التواصل هو ما تتفق عليه شخوصه، برغم اختلافها الظاهري وتنوع حوافزها، حتى بعضها يخاطب بعضها الآخر، كل بلغته، ومع ذلك يصل الطرفان الى تفاهم مشترك تقع أحداث فيلم «الرجل الميت» في الغرب الأميركي في العام 1875، وهو من أفلام رعاة البقر، ولكنه من الأفلام الغريبة من هذا النوع السينمائي. تدور قصة الفيلم حول شاب يدعى وليام بليك يعمل محاسباً في مدينة كليفلاند ويتلقى عرضاً للعمل في مصنع للأدوات المعدنية ببلدة نائية في الغرب الأميركي. وبعد القيام برحلة طويلة ومضنية بالقطار يصل إلى تلك البلدة ليكتشف أن الوظيفة الموعودة له قد أعطيت لغيره. ويتعرف هذا الشاب على شابة جميلة ويقضي الليلة معها دون أن يعلم أنها مخطوبة لابن صاحب المصنع الذي يفاجئهما ويطلق النار عليهما ويقتل الفتاة ويصيب الشاب بطلقة في صدره، ويقوم الشاب بدوره بقتل ابن صاحب المصنع. وبعد ذلك يقوم الشاب بسرقة حصان تابع لصاحب المصنع ويلوذ بالفرار. ويستأجر صاحب المصنع ثلاثة من عتاة المجرمين لمطاردة الشاب الفار وقتله أو إعادته حياً واسترجاع الحصان. وعندما يصحو الشاب من النوم يجد هندياً أحمر يحاول إخراج الرصاصة من صدره. ونعلم أن الهندي الأحمر سبق أن درس في إنجلترا وأنه معجب بالشاعر الإنجليزي وليام بليك، ويعتقد أن الشاب الذي يحمل اسم وليام بليك هو الشاعر نفسه. ويبدأ الاثنان معاً رحلة طويلة تتخللها مجموعة من الشخصيات الغريبة التي تطاردهما والتي يحاولان مراوغتها، ويمر الاثنان بسلسلة من الأحداث التي تجمع بين العنف ومشاعر القسوة والعطف والحنان والإيمان في رحلتهم الجسدية والروحية نحو المجهول. يحاول فيها المخرج أن يسبر أغوار العلاقات الاجتماعية في الغرب الأمريكي النائي، البعيد عن مظاهر التقدم والحضارة الأمريكية.

لعل هذا الفيلم، يمثل المختلف والجديد في السينما الأمريكية، حاملا في مكنونه مأساة الهنود الحمر، من خلال تسليط الضوء على شخصية الهندي الأحمر الضخم، الذي يسرد لبليك طفولته البائسة، المليئة بصخب العنصرية والتفريق العنصري بين الهندي الأحمر والأمريكي الأوروبي.

الموسيقى التصويرية ، أضافت للفيلم عنصر الجذب، والجمال، وما زاد من معجبيه، هو تمكن الممثلين وعلى رأسهم الممثل جوني ديب وجاري فارمر في دور الهندي الأحمر.

فيلمه "قطار غامض" سَبَرَ من خلاله أسطورة مدينة ممفيس وعالم الروك أند رول فيها.. . اما فيلمه "غوست دوغ " فيدور حول امريكي اسود يعمل قاتلا مأجورا لدى رجل مافيا على طريقة واخلاق الساموراي اليابانية ويمزج بين الاسلحة المتطورة وبين تربية الحمام الزاجل واستخدامه في المراسلة مع مستأجريه .. ويصف ويتس افلام جارموش بأنها "تشبه نصوص الهايكو". مثلما يلتمع في الذهن كثيرين من المصورين الفوتوغرافيين الأميركيين العريقين أمثال روبرت فرانك، وويليام إيغلستون، يلتمع كذلك جارموش بوصفه ينظر إلى أميركا بعيني اللامنتمي، جاعلاً بذلك المألوف غريباً، والإعتياديّ مبهماً. وعلاوة على ذلك، يذهب في أفلامه إلى تصوير الذين يتنقلون ويسافرون بلا أيّ هدف ومن أجل دوافع خاطئة، نحو مصائر غير مرسومة سلفاً كما في سينما النمط السائد في هوليوود. "أنني مهتم باللحظات غير الدرامية من الحياة"، يقول جارموش، "ولا يجذبني أنْ أعمل أفلاماً حول الدراما؛ فهي تختزل حياة الشخصية إلى لحظاتها الدرامية القصوى التي يمكن الإمساك بها من سيرة تلك الحياة برمتها، وإذا كان من المفروض أنْ يعطيَنا ذلك صورة لشخص ما فإنني لا أستطيع أنْ أرسم تلك الصورة. كلّ هذا يبدو خطأً بالنسبة لي".

أنّ جارموش استطاع أنْ يظلّ على الدوام رافضاً العُروضَ المالية السخية من قِبَل الإستوديوهات الكبيرة في سبيل الضوابط والمعايير الإبداعية. وهو يحتلّ الآن مكانة متفردة في السينما الأميركية المستقلة بعدما أنجز افلامه بطريقته الخاصة كلياً. العناد الذي يتسم به جارموش قدم العام الماضي عاشر أفلامه "زهور محطمة"، الذي لا يبتعد منذ الوهلة الأولى عن طبيعة افلامه التي لا تخلو من غرابة في شخصياته واجوائه الهادئة. حيث تجد نفسك فيه خلال تذوقك الحوادث الشائقة التي يقدمها جارموش لنا لقطةً لقطة: الانتظار الطويل قبل بلوغ الذروة. فالافتتاح لا يستمد اهميته ودلالاته الا بما نراه في نصف الفيلم، وهذا النصف ايضاً لا يسوّغ وجوده الا التتمة المنتظرة. هذه هي البنية الدرامية التي يعتمدها جارموش: يهندس فيلمه كما لو كان يشيّد كاتدرائية، قطعةً قطعة، الى ان تلتقي اجزاء التحفة في صورتها النهائية المبهرة.. فيلم جارموش يرسم بورتريه لاميركا في دهاليزها ومتاهاتها وعوالمها المختلفة. ازهار العنوان المتكسرة ليست الا اشارة الى الشتات العائلي والاجتماعي، ورمزاً لاستحالة تجميع هذه الازهار في باقة واحدة جرياً على عادة تكرّست في سينماه، يتمحور " زهور محطمة " على شخصية يتيمة هي بمنزلة الدينامو الذي يشعل محرك العمل. لا حوادث عند غيابه! ً يبدأ كل شيء في مدينة اميركية نائية ومجهولة. ذات صباح عابر بيل موراي الذي يؤدي دور العازب «دون جونسن» شبه المتقاعد الذي أربى على الخمسين، ويعيش هادئاً متأملاً ولم تعد لديه أي رغبة سوى فى الصمت والعيش في حالة سكون صوفى داخل بيته،ولا يكاد يطلب الآن من الدنيا شيئاً بعدما جمع ثروة من عمله في أجهزة الكومبيوتر،. وكشخصيات جارموش السينمائية الاخرى، ليس "دون" من أصحاب الفعل. بل هو ينجرف مع التيار. يعيش الحاضر من دون ايمان بقدرته على تغييره. ليس من موقع يأس¬فشخصياته لا تملك خطاباً¬ انما انطلاقاً من قدر الانسان الذي اعتاد عيش الحاضر وأقصى امانيه الامساك باللحظة. هكذا يسلم بهجر صديقته له من دون ان نعرف السبب سوى انها تنعته بالدونجوان المسن. بعد رحيلها، يقضى نهاراته ولياليه على كنبة اما نائماً او جالساً بدون حراك. هل هي علامات افتقاده لها؟ ولكنه يؤكد لجاره "وينستن" انه لا يعرف اذا كان حزيناً على رحيلها. هل هي اذاً علامات الضجر؟ او الانغماس الشخصي؟ او نوع من الرضى؟ حتى ما يبدو انه سيكون نقطة تحول في حياته. فبينما هو يعيش وحدته اذا برسالة تصله من امرأة لم توقعها، زهرية اللون، مكتوبة على آلة كاتبة. تخبره فيها ان له منها ولداً في نحو العشرين الآن، انطلق ليبحث عن أبيه... أي عنه.. في البداية لايهتم للأمر ، فهو الـ"دون جوان" المتعب الذي يخيّل الينا انه ابكى الكثيرات، يستصعب العودة الى الخلف والمشي على خطى ماضيه "غير المشرّف". ولكن جاره المهووس بحل الالغازفي إشارة واضحة الى تلفزيون الواقع وأفلام الالغاز، ينظم له رحلة لزيارة خمس من عشيقاته في محاولة لاكتشاف من هي صاحبة الرسالة. ويحثه على زيارة كل واحدة منهن وهو يحمل باقة زهور وردية ، ليستشف من استجاباتهن الحقيقة ويعرف من هي أم ابنه. يصطحب دون معه في رحلته قرصاً مدمجاً يحتوي على الأغاني والموسيقا كان قد أخذه من وينستون بهدف الاستماع إليها خلال رحلة البحث عن النسوة الأربع. ويقوده ذلك الى رحلة حول البلاد ليلتقي بنساء ارتبط بهن في يوم ما، ورحلة اخرى في اسرار الماضي المنسي هكذا يتحول الفيلم فيلم طريق ويتخذ كل جزء صفاته الخاصة. كل زيارة الى بيت واحدة من عشيقاته هي بمثابة فيلم قصير. وكل زيارة تؤثر فيهن من دون ان تؤثر فيه. انه هناك فقط من اجل البحث عن ورق رسائل زهري كالذي كتبت عليه الرسالة وآلة كاتبة او اي شيء يدل على ان صاحبة المنزل هي المرسلة. ولكن دوافع "دون" الى القيام بالرحلة تبقى غامضة. فهو حتماً ليس مؤمناً بانه سيجد حلاً للغز لأنه في الأصل غير مؤمن بوجود لغز بعكس جاره. لعله اراد ان يغير موقعه على الكنبة. حى انه لا يبدو محتفظاً بأية مشاعر لنسائه القدامى. ولكنه كما قلنا يمشي مع التيار. وهكذا يتحول الفيلم من بحث فتى عن ابيه، الى بحث الأب عن الأم. او لنقل بالأحرى، بحثه عن ماضيه، من خلال نساء هذا الماضي. ونحن نزور معه كلاً من أولئك النساء ونلاحظ ان لكل منهن اسماً له دلالة: يتنقل "دون " بين نساء ماضيه اللاتي يقابلنه غالبا بابتسامة وترحاب لا يتفقان مع لامبالاته وسكونه الواضح.. يتقدم "بيل موراى" وفى يده باقة زهور وردية فخمة يقدمها للسيدة التى لم يقابلها منذ عشرين عاما وعلى وجهه ابتسامة مترددة ،قلقة. هل يمكن أن يسألها الآن اذا كانت هى أم ابنه ، هل يحدثها عن حمل أثقل به كاهلها منذ عشرين عاما ثم رحل. ينتهى المشهد وينتهى لقاؤه مع السيدة ليعود من جديد ويعيد الكرَّة مع سيدة أخرى. يستمر فى رحلته ، وعند كل واحدة منهن يجد شيئا وردى اللون. عند كل واحدة منهن يجد دليل إثبات ودليل نفي. وعند كل واحدة يتجدد شكه حول هذا الابن الذى ظهر فجأة والذى قد لا يكون له أى وجود حقيقى. فمن امرأة كانت حبيبته لامرأة أخرى يستمر "دون" فى رحلته مكتشفا كم أصبح غريبا عما كانه يوما ، وكم أصبحت كل منهن غريبة عنه وعنها. من امرأة لأخرى تستمر رحلة بحثه عن ابن قد لا يكون له وجود، وعن ذاته التى ما عاد يحفل بها كثيراً.

هكذا ، يبدأ الفيلم وينتهى من غير أن يصل البطل والمشاهد إلى يقين،. كل شيء واضح أمام عيني البطل " دون جونسون" لكنه رغم ذلك لا يرى. لأن عدم الرؤية لا يقبع فى الخارج لكنه يأتى من الداخل، يأتى من رفضه أو من عدم رغبته فى الرؤية. وقد نجح المخرج جيم جارموش حين اختار تنفيذ فيلمه فى كادرات مضيئة بلا ظلال ولا ظلام ، كادرات تبدو كأنها تظهر كل شىء بينما تبقى الحقيقة كما هى فى الحياة الواقعية خفية تحركنا كالموتى فنتناقض بقوة مع سطوع الشمس وجلاء الألوان من حولنا. يجاري "لورا" (شارون ستون)، لها ابنة تدعى لوليتا (ما يحيلنا مباشرة الى رواية فلاديمير نابوكوف وفيلم ستانلي كوبريك المأخوذ عنها) فيقضي الليلة معها وفقاً لرغبتها ليودعها في الصباح ويغادر الى "دورا" (فرانسيس كونروي) (وهي هستيرية التصرف تماماً على شاكلة دورا التي يتحدث عنها فرويد في كتاب له عن الهستيريا) التي انقلبت من هيبية الى مقاولة وزوجة لرجل لا يُحتمل. هناك يجلس إلى مائدة الزوجين من دون ان ينبس بكلمة. اما "كارمن" (جيسيكا لانغ) (على اسم بطلة الأوبرا الشهيرة). وهي محللة إحصائية ذات نمط خاص تبدو مكتفية بحياتها الجديدة وتعكف على دراسة الحيونات الأليفة، وتخفي وراء غرابة أطوارها استقرارا داخليا راسخا في شخصيتها. وأخيراً "بيني" (تيلدا سوينتن) الغاضية الهيبية العنيفة والتي لم تغفر لدون بعد.هجرانها. الخامسة هي "بيبي" التي يزور قبرها. في هذه اللقاءات، يختلط الفرح بالحزن بالكبت بالغضب. وتتجلى قدرات جارموش على قول الكثير من دون ولا كلمة. وضعية اللقاء بين "دون" وإحدى عشيقاته تخبر عن علاقتهما في الماضي. لا عتاب، لا كلام، لا ذكريات... فقط وضعيات وزوايا كاميرا تنبىء بطبيعة التواصل وماضي العلاقة. سؤال أساس قد يطرحه انسان ما على نفسه، ذات لحظة خمسينية من عمره: أين ذهب ماضيّ وأحلامه؟

سيكون مشواره حافلاً بالمشقات والمتاعب، لكن عند عودته سنلتقي رجلاً رجع مهزوماً ومنكّس الرأس: من النساء الخمس اللواتي زارهنّ، المرأة الراحلة وحدها ستملأ قلبه حناناً ودفئاً. مرة جديدة، يصوّر جارموش شخصاً نصف ميت ينتمي الى دنيا الحق أكثر منه الى عالم الاحياء. ونكتشف ذلك في أكثر من مناسبة: من عدم رغبته في الاخذ والرد مع الآخرين، وخصوصاً النساء، واذا ببائعة أزهار تضمد جروحه بعد حادثة تعرّض لها، فلا يجد امراً يحدثها عنه، الا سؤالها عن عنوان مقبرة ينوي زيارتها
في نهاية الفيلم يسأل الابن المفترض دون، عما اذا كان له موقف فلسفي فيكون جوابه "الماضي انتهى، والمستقبل لم يصل بعد. إذاً ليس هناك سوى الحاضر". لقد تحطمت زهور دون جونستون على مذبح رحلة البحث عن ماضيهن. فهل انتهى الماضي هنا... ام اننا، نحن ابناء هذا الماضي، لا نزال نعيشه ونعاني من وطأته؟

ويتمثل جزء كبير من عبقرية المخرج جيم جارموش فى هذا الفيلم فى التركيز بعمله على الممثل حيث يكاد يخلو فيلم "زهور محطمة" من أى تكنيكات مبهرة، بينما تتحقق متعة المشاهدة من هذا التضاد بين أداء بيل موراى الساكن وأداء الممثلات اللاتى لعبت أدوار صديقات الماضى مما يذكرنا طوال الوقت بأنهن متورطات فى الحياة بينما هو ميت فى عزلته وصمته .و ل"بيل موراى" وقع خاص فى النفس. فوجهه العادى يستمد جاذبيته من كونه وجهاً مألوفاً ومن لمحة السخرية التى تراها فى عينيه. وجه يمنح صاحبه خفة تشي بأن هذا الشخص لا يأخذ نفسه على محمل الجد ، شخص ساخر يستخدم سخريته وسيلةً للتحرر من ثقل الحياة.. وعن خياراته للمثلين يقول جارموش. "أخشى أنْ يظن الناس أنني انتهجتُ نهج النمط السائد بسبب عدد من طاقم الفيلم، غير أنه سبق لي أنْ عملتُ مع ممثلين مشهورين مثل جوني دِبْ، ووينونا رايدر، وكيت بلانش. إذن، لاينبغي أنْ نحسب الأمور بهذا الشكل؛ فأنا لم أشرك شارون ستون لأنها نجمة كبيرة في عالم السينما، بل لأنني رسمتُ ملامح الدور الذي ستقوم به في ذهني، فرأيت أنها ستكون أرملة عظيمة وأمّا لابنتها المراهقة التي تحمل ملامح شخصيتها. هذه هي طريقة في العمل. ورسمتُ كذلك دور البطولة لبيل موراي في في ذهني، فبرز الفيلم بأكمله من خلال الشخصية التي صنعتها معه في الذهن"، يقول جارموش في سياق التكهنات التي تقول بإمكانية انسحابه إلى سينما النمط السائد..

فى هذا الفيلم لدينا فقط صورة واضحة وإضاءة ساطعة بلا أى ظلال أو مناطق معتمة. ليس هناك إضاءة شبحية أو ضباب يواري الوجوه. باختصار، لا وجود لتلك التقنيات التى تستخدم للتدليل على الحالة النفسية للشخصية المنعزلة ، فالمخرج جيم جارموش يعبر عن عزلة بطله - فقط - من خلال أداء "موراى" الرائع. وهو اختيار ذكى من جيم جارموش يدلل على مخرج يملك قدر كبير من الوعى مخرج يدرك التناقض بين ثنائية الحياة التى تبدو من الخارج واضحة وضوح الشمس بينما تكمن داخلها وداخلنا تلك الزوايا المعتمة التى يستحيل علينا أن نراها..

بقلم الكاتب \ محمد عبيدو

الثلاثاء، 8 مايو 2007

ستانلي كوبريك ..


" ستانلي كوبريك : سيرة حياته وأعماله
تــــــــرك كوبريــــــك فِيَّ أثــــــــرا خرافيـــــــا في ضخـــــامتــــــــه من بين أقــــرانـــــــــه في جيـــــــل الشبـــــــاب"
اورسون ويلز

سينما المخرج "ستانلي كوبريك" الذي رحل في اذار 1999 لا يمكنها ان تقوم إلا على أساس سوء التفاهم شأن كل فن كبير وحقيقي، فقد اتسم هذا المبدع بانتقائية مدهشة، و خاض خلال ما يقرب من نصف قرن - هو عمر تجربته السينمائية- وعبر ثلاثة عشر فيلما، العديد من الأنواع التي عرفت بها السينما الهوليوودية، من سينما الحرب، إلى أفلام العصابات إلى سينما الاستعراض التاريخي، فحكايات الغرام والخيال العلمي، إلى سينما الرعب.. واكتشف وأسس الكثير من عناصر السينما التي بدأ العديد من المخرجين بأخذها كمحطة أولى لبدء أفلامهم منها، فمثلاً في أحد أوائل أفلامه (القتل) عام 1956 ابتكر طريقة التقطيع والربط السريع في أحداث الجرائم، وفي عام 1969 (2001: ملحمة فضائية) صور حياة الفضاء بمؤثرات صارت قدوة لكل صانعي أفلام الخيال العلمي، وفي معظم أفلامه هناك حالة نفسية غريبة في أحد أشخاصه، كما ان سينماه، باستثناء فيلميه(خوف ورغبة)و(قبلة القاتل)، اتكأت على أعمال أدبية بارزة مثل«لوليتا» لفلاديمير نابوكوف، و«سبارتاكوس» لهوارد فاست، و«أوديسا الفضاء» لآرثر سي كلارك، و«البرتقالة الآلية» لأنطوني بارغس وغيرها، ،والأمر الآخر في مسيرة هذا المبدع هو انه، ومنذ رحيله عن الولايات المتحدة مطلع الستينيات واختياره العيش في بريطانيا، عرف باعتزاله العالم بشكل يكاد يكون نسكيا، فهو نادرا ما قابل أحدا، ولم يسافر على الإطلاق، ولم يقبل التكريم.

ان هذا الكتاب، الذي قام بتأليفه " فنسنت لوبرتو " وترجمه الى العربية "علام خضر " وصدر في 695 صفحة ضمن سلسلة الفن السابع عن المؤسسة العامة للسينما بدمشق ، هو السيرة الاولى الشاملة عن حياة ستانلي كوبريك احد عمالقة الاخراج السينمائي في القرن العشرين وقد انصب هدف المؤلف على تفنيد هذا الغموض والاساطير المحاكة حول العبقرية السينمائية كوبريك من خلال سرد حياته بدءا من ولادته في مقاطعة (بروكنس) بنيويورك عبر عقود من انجازاته السينمائية الى المفهوم الحالي المبالغ به حول اعتباره مخرجا مبدعا معتكفا يعيش في حالة من النسيان، وبعد اربع سنوات من البحث المكثف والمقابلات التي اجراها المؤلف مع كل معارف ستانلي كوبريك وكل من شارك في اعماله"، وجد أن هذا الغموض والاساطير تخبو في مجرد انسان حقيقي ".

شهد ستانلي كوبريك كرحالة سينمائي ثلاث حروب وتمرد العبيد قديما بالاضافة الى مواجهة نووية لاعقلانية بين القوى العظمى، وقد عبر في رحلته العالم السفلي في المناطق الحضرية، واستكشف خفايا الرغبة الجامحة التي تستحوذ على بروفسور تجاه محظيته الصغيرة، وسافر عبر الكون وما وراء حدوده، كما زار المستقبل القريب حيث ساد العنف المفرط وسافر عبر الزمن الى القرن الثامن عشر ، وتناوب بين الماضي والحاضر في فندق تسكنه الاشباح في كولورادو ، قام كوبريك بكل هذه الرحلات السينمائية مع أنه قضى نصف حياته الشخصية والعملية تقريبا في ريف لندن بانكلترا .

لم يدرس كوبريك السينما وانما علاقته بها ابتدأت من حضوره المتواصل لدور السينما عندما كان طالبا في الثانوية " فستانلي كوبريك الشاب كانت لديه بالفعل جرأة التفكير على مقدرته صناعة افلام موازية ان لم تكن افضل من تلك التي تنتجها مصانع هوليوود ، فكوبريك الشاب كان يعتقد انه قادر على الافلام السينمائية ، وقد دفعه خيار من اللاوعي أن يشاهد كل ما يتعلق بالسينما ، كما علمه تفكيره المنطقي وفضوله المتنامي بأن لا يسترسل بعواطفه في انتقاء الافلام بناء على النجم السينمائي أو نوع الفيلم ، وبدأ بمشاهدة كل الافلام لان فيها شيئاً ما يجب أن يتعلمه " .

ابتدأ الشاب كوبريك مهنته كمصور صحفي عام 1946 ، وسرعان ما اصبح صانع افلام ولد من روح فوتوغرافية ، ان طبيعة التصوير الفوتوغرافي بحد ذاتها من ضوء وعمق وفراغ وتكوين وقياس الواقع الذي تدركه عين المصور تنبض في كل فيلم اخرجه كوبريك ، فهو يعتبر " عاشقا للسينما ونصب نفسه مؤرخا سينمائيا يتمتع بمعرفة واسعة وشغف كبير بماضي السينما وحاضرها ومستقبلها ، هذا وتظهر دراية كوبريك ومعرفته التقنية والجمالية للفن ومهنة التصوير الفوتوغرافي كوسيط في كل لقطة ومشهد من تاريخ أفلامه السينمائية "

بلغ كوبريك سن النضج عام 1950 وكان مستعدا لتوديع دور العبقري الصغير كصحفي مصور وقرر ان الوقت قد حان ليصنع أول افلامه السينمائية ، وكان لديه العزم والتصميم على ان يطور ثقافته ذاتيا ، لقد علم نفسه بنفسه ليصبح مخرجا سينمائيا وصانع أفلام .
فيلمه الاول تسجيلي " يوم النزال " مثير من الناحية البصرية ، وخال من الزلات الشائعة بين صانعي الافلام الناشئين، وقد منح لنفسه فيه الحرية المطلقة في التجريب بأسلوب مونتاجي مفعم بالحيوية والاشراق ، وتلاه فيلمه التسجيلي "القديس الطائر " ثم الروائي الطويل " الخوف والرغبة " الذي انجزه كله بنفسه، ثم فيلمه " قبلة القاتل " الاحترافي المتميز، وتلاه فيلم " القتل " الذي يعتبر من الافلام الكلاسيكية للجرأة السينمائية التي صبغت اسلوب سرد القصة واتباعها تركيبة غير مترابطة في الاحداث، من اجل اظهار تفاصيل الحالة الدرامية ، ولجأ في فيلمه " دروب المجد للتصوير بالكاميرا المحمولة ، فكان العمل بواسطة الكاميرا السينمائية امتداداً لخلفيته في التصوير الصحفي مما اضفى عنصر الواقع التسجيلي على افلامه القصصية .

وعام 1960 قدم فيلمه الملحمي " سبارتاكوس " ، والذي يوجز قصة تمرد العبيد في روما، في العام 73 ق. م، سبارتاكوس الذي لعب دوره (كيرك دوجلاس) يبدأ رحلته من منجم في ليبيا، حيت كان ضمن من اشتراهم صاحب المنجم (بيتر أوستينوف)، ويرصد الفيلم قصة حبه، وتمرده وعودته للأسر مرة أخرى، وقد حصد اربع جوائز اوسكارية ، وتلاه فيلمه الجريء الذي عانى مشاكل مع الرقابة " لوليتا " عن الرواية الشهيرة لنابوكوف وقد دخل فيه عالم الكوميديا السوداء ... ان الكآبة التي تكتنف كوبريك وفكاهته الخبيثة قد زخرفت الفيلم بقشرة مخادعة من السخرية والتهكم، وقد عام 1964 فيلمه " الدكتور سترينجلاف " عن الحرب النووية .
وقدم نص فيلم " 2001 : اوديسة الفضاء " الذي اخرجه كوبريك عام 1968 كفنان بحت بين صفوف أسياد السينما ، الفيلم يعد ملحمة خيال علمي، يقدمها كوبريك بأناة ودقة ينتجهـا ويخرجها ويكتب السيناريو لها ليضمن مفاتيح اللعب كلها لكن ما يقوله في النهاية – بوضوح- هو أن الانسان سيشب يوما عن طوق الآلة أو ربما ينسحب فيما وراءها بواسطة وعي- قوي- كوني- ليعود سيرته الأولى طفلا، لكنه في هذه الطفولة أكثر تقدما من طفولته الأولى التي عبر عنها بأجيال القردة ، ويتبعه بفيلمه الشهير " البرتقالة الالية " الذي قال عنه بونويل : " هو فيلمي المفضل ،كنت من المعارضين لهذا الفيلم ولكن بعد ان شاهدته أدركت بأنه الوحيد الذي يعبر عن العالم الحقيقي المعاصر الذي نعيش فيه " .

واذا كان الحاسب الآلي في أوديسا الفضاء 2001 هو أكثر شخوصه إنسانية، وأن فيلم البرتقالة الآلية يظل مفجعا في تقديمه موضوعة العنف، فهو في فيلمه باري ليندون (1975) يريدنا أن نفك موضوعاته وشخوصه كما لو كانت أجزاء آلية، ومع باري ليندون، المأخوذ عن رواية- كالعادة- للكاتب ثاكري، يقدم كوبريك لنا بطريقة مثالية بحثا حول تلك الثيمة ، بطله شاب تعصف به الحوارث، ولا يتحكم قي حياته إلا قليلا، ليقع بطريقة حمقاء في حب مراهقته ! لكنه يغادر الحي فجأة بعد مبارزة ، وبعد انخراطه في الجيش البريطاني يحارب في أوروبا، حيث الصحراء من كل جانب، لا يجد الرفقة الطيبة ، يتزوج من امرأة ذات ثراء وحسن ثم يحطم عالمه لأنه يفتقر الى الشخصية التي تجعله ينجو بنفسه، هذا كله يحدث بمحض المصادفة، لا توجد أدنى عقلانية منطقية توجب حدوثها، لا نظرية في الحياة ولا شخصية ما تقود البطل نحو حتفه.

بقلم الكاتب \ محمد عبيدو

الأحد، 6 مايو 2007

شارلي كوفمان




من النادر أن تجد جواباً غير نظرات الحيرة عندما تسأل حتى المهتمين بالسينما عن أي من كتّاب السيناريو. ففي عالم يعتمد على السيناريو والإخراج والأداء يحصل الممثل على الشهرة ويحوز المخرج الثناء بينما يقبع السيناريست في خنادق التجاهل بعيداً عن واحات الشهرة والمجد وكأنما كان هذا عرفاً سائداً في عالم السينما.

منذ فيلمه الأول عام 1999 لا يزال شارلي كوفمان ممسكاً بمعول عبقريته ليكسر تلك القاعدة وليتبوأ مكاناً لم يسبقه إليه أي سيناريست بدخوله قائمة أكثر 100 شخص قوة ونفوذاً في هوليوود.

بدأ شارلي كوفمان الكتابة مبكراً فمسرحياته الصغيرة عندما كان طالباً كانت تلاقي استحسان زملائه. خرج من جامعته في بوسطن ليلتحق بجامعة نيويورك ويدرس السينما هناك وأخذ يبحث لاحقاً عن فرص ليعرض أيا من كتاباته لأحد المسؤولين في هوليوود لكنه لم يفلح، فخطر على باله أن يشترك في كتابة مسلسل تلفزيوني ليكتسب شهرة بسيطة تسهل عليه الحصول على فيلمه الأول، ظل يتصل أسبوعياً ولأكثر من سنة كاملة ليتابع ما إذا قرأ البعض شيئاً من نصوصه حتى تم قبوله ككاتب عام 1990 مع المسلسل الكوميدي Get A Life أعقبه بثلاث مسلسلات أخرى. خلال تلك الفترة أخذ كوفمان بكتابة سيناريو لأفلام أرسل أحدها لمخرج فيلم «العرّاب» فرانسيس فورد كوبولا الذي وجد في نص كوفمان المسمى «أن تكون جون مالكوفيتش» Being John Malkovich فكرة ذكية عرضها على زوج ابنته المخرج الشاب سبايك جونز الذي بمجرد انتهائه من قراءة النص بادر بالاتصال بكوفمان ليعرض عليه أن يقوم هو بإخراج الفيلم.

لم تمنع ميزانية فيلم «أن تكون جون مالكوفيتش» المنخفضة البالغة 13 مليون دولار فقط من أن يقف معظم النقاد احتراماً لهذه العبقرية التي أعادت لنصوص هوليوود شيئاً من هيبتها. يتناول الفيلم قصة محرك دمى أطفال (أراجوز) في الشارع (قام بالدور الممثل جون كيوزاك) يعاني من اضطرابات في حياته الشخصية والاجتماعية يستجيب لطلب وظيفة لشركة اتخذت مقراً لها في الدور (السابع والنصف!) من أحد المباني ليكتشف فيها فتحة صغيرة يدخلها لتنتهي به في رأس الممثل جون مالكوفيتش فيرى ما يراه ويحس بما يشعر به مالكوفيتش. تقنعه زوجته بأن يستغل هذا الأمر تجارياً فيبدأ السماح للبعض بالدخول في عقل مالكوفيتش في جولة مدتها 15 دقيقة مقابل مبلغ من المال. يعلم مالكوفيتش عن الأمر فيجره فضوله هو الآخر للدخول في عقله هو. الفيلم مليء بالغرائب والمنحنيات المذهلة التي جعلت الكثير من النقاد يضعونه أفضل أفلام السنة وأحد أفضل أفلام العقد. ترشح كوفمان لأوسكار أفضل سيناريو أصلي لكنه خسر أمام آلان بال في «الجمال الأميركي».

عاد كوفمان في «طبيعة بشرية» Human Nature عام 2001 مع المخرج الفرنسي ميشيل قوندري الذي يقوم فيه عالم مهووس (تيم روبينز) بمحاولة إعادة إجبارية لشاب نشأ في غابة ومع الحيوانات إلى الحضارة أو الإنسانية كما يراها. حاز الفيلم على جائزة الآمال الكبيرة في مهرجان ميونخ السينمائي رغم أن أرباحه في دور العرض لم تصل المليون دولار.

عقد بعد ذلك كوفمان اتفاقاً بكتابة اقتباس لرواية الكاتبة سوزان اورليان الناجحة المسماة «سارق الأوركيد»، التي تتحدث عن شخص مهووس بزهور الأوركيد النادرة يقوم بسرقتها من المحميات الطبيعية باستخدام ثلاثة من الهنود الحمر الذين لا يطالهم القانون. القصة جميلة لكن تحويلها لفيلم أمر صعب فهي مليئة بالمعلومات عن الزهرة لكنها خالية من الخطوط الدرامية. جلس كوفمان ما يقارب الأربعة أشهر لم يستطع فيها كتابة صفحة واحدة حتى كاد أن يؤمن بأن مستقبله ككاتب قد انتهى. لكنه قرر فجأة أن يتناول معاناته هو ككاتب في تحويل الرواية لفيلم فظهر لنا فيلم «اقتباس» Adaptation عام 2002 الذي جلب له ترشيحه الثاني للأوسكار لكن لنص مقتبس هذه المرة. في هذا الفيلم الذي أخرجه سبايك جونز أيضاً خلط كوفمان الحقيقة بالخيال ومزجهما بشكل فريد، حيث جعل له أخاً توأماً (قام بالدورين الممثل نيكولاس كيج وترشح عنهما لأوسكار أفضل ممثل) وأشرك هذا الأخ الخيالي (دونالد) في كتابة سيناريو الفيلم كما جعل الفيلم مهدى لذكراه في الخاتمة. الطريف أن هذا الأخ الخيالي (دونالد) ترشح مع شارلي لجائزة أفضل سيناريو في كل من القولدن قلوب والأوسكار. في نفس العام خرج فيلم «اعترافات عقل خطير» Confessions of A Dangerous Mind. أخرج الفيلم الممثل الشهير جورج كلوني وهو عن شاب قام بخلق برنامج تلفزيوني ناجح يتم تجنيده لاحقاً من قبل المخابرات المركزية الأميركية ليقوم باغتيالات لصالحها. ذكر كوفمان مرة أن هذا الفيلم كان مكتوباً قبل فيلمه الأول «أن تكون جون مالكوفيتش».

ما أن عرض المخرج ميشيل قودري على الممثل جيم كيري بأن يقوم ببطولة فيلم شارلي كوفمان الجديد حتى وافق مباشرة قبل أن يقرأ النص، بل وافق على خفض أجره الاعتيادي (20 مليون دولار للفيلم) كون هذا المبلغ يساوي الميزانية الكاملة لفيلم «إشراقة أبدية لعقل نظيف»Eternal Sunshine of the Spotless Mind والذي يتلقى فيه كيري رسالة من شركة تخبره بأنه قد تم مسح جميع الذكريات المتعلقة به في عقل حبيبته السابقة (كيت وينسلت) خلال عملية طلبت أن تخضع لها مما يجعله يحاول خوض نفس التجربة، لكنه يتردد بعد فوات الأوان فيحاول التشبث بآخر تلك الذكريات. الفيلم لاقى ترحيباً شديداً من النقاد.

وقد يكون كوفمان أكثر كتاب هوليوود طلباً ونفوذاً وأكثرهم شهرة رغم حرصه المبالغ في ألا يظهر على شاشات التلفزيون أو أن يتم تصويره وقد يرى فيه الكثير من النقاد الملعقة التي ستقلب موازين هوليوود، لكن هذا لم يشفع له عند عامة الجمهور الذي قد يرى في أفلامه الكثير من التعقيد والغموض مما أدى لإعراضه عن أفلامه التي بلغ متوسط أرباح الواحد منها عشرين مليون دولار، وهو مبلغ ضئيل في زمن «سبايدر مان» و«سيد الخواتم».

عُرف كوفمان بحرصه الشديد على مرافقة المخرج خلال سير الفيلم، فهو على حد قوله يجب أن يتأكد بأن ما كتبه سيصل للمشاهد كما أراده هو، وقد أعطاه كل من جونز وقودري الكثير من الصلاحيات، لكن جورج كلوني كان له رأي آخر فطلب منه عدم التدخل وهو الأمر الذي جعل كوفمان يعترف بأن «اعترافات عقل خطير» كان أقل أفلامه قرباً إلى نفسه. تميز شارلي كوفمان بإتقان الطرح والمهارة في رسم المنحنيات الهامة في سياق القصة بطريقة مبتكرة تبرأ فيها عن كل ما هو تقليدي. أولى اهتماماً أكبر لشخصياته فدرسها وغاص في أعماق مخاوفها وشكوكها في خليط أخاذ بين الحقيقة والخيال. على عكس بقية كتاب هوليوود، الحب عند كوفمان يأتي لاحقاً، فالاضطراب النفسي وعدم الرضا عن الذات يسيران بتلك الشخصيات بعيداً عن علاقات عاطفية ناجحة. لا يعتبر كوفمان شخصياته مجانيناً، قد تشوبهم الغرابة لكنه يوازن بحذر فلا يوصل تلك الغرابة لمستوى الهزل.

يقول كوفمان: «الناس دائماً يقولون إنه لن يكون هنالك أي شيء جديد فلم نتعب أنفسنا؟ أما أنا فأظن أن أحد أهدافي هو مواصلة المحاولة لمعرفة ما إذا كان هنالك شيء جديد». أيها السادة.. هذا هو الكاتب العبقري المثابر الذي سيظل يبحث عن كل ما هو مبتكر.. هذا هو شارلي كوفمان.


بقلم \ عبد الله ناصر القحطاني