اخراج : مارتن سكورسيزي
بطولة : روبرت دي نيرو
بطولة : روبرت دي نيرو
ليس هناك من فيلم استطاع تعرية المجتمع الأمريكي من الداخل وبمثل هذا التجريد كما فعل فيلم " سائق التاكسي"، لقد كان المخرج مارتن سكورسيزي صريحاً إلى حد القسوة بنبشه تفاصيل ودقائق الشارع النيويوركي القذر و تقديمها بهذا الشكل البشع الموحش. و ليست الصراحة وحدها هي ما جعل الفيلم عظيما وخالدا بل هناك سببان كذلك، أولهما الأداء الهائل من النجم المبدع روبرت دينيرو، أما الثاني فهي تلك الطريقة وذلك الأسلوب التأملي الساحر الذي انتهجه سكورسيزي في عرضه لفكرته، بحيث أصبح الفيلم معه أشبه ما يكون بتأملات مفكر فيلسوف في حال مجتمع يرتع في أوحال الرذيلة.في فيلم " سائق التاكسي" الحائز على السعفة الذهبية لمهرجان كان عام 1976م، يبحث سكورسيزي بشكل هادئ رصين عما يمكن اعتباره سببا للجنوح الذي اعترى فكر بطل فيلمه " ترافيس بيكل " و قاده لأن ينفجر بهذا الشكل العنيف في نهاية الفيلم ، تلك النهاية التي تبدو رغم ما احتوت عليه من خراب ودمار نهاية طبيعية ومنطقية ومفهومة ومقبولة . سكورسيزي هنا ، في فيلمه هذا , لا يبرر و لا يؤيد شيئاً إنما يتأمل و يبحث و يفسر و يفكر بتجرد و منطقية و بطريقة ( واحد زائد واحد لابد أن يساوي اثنان ) ، هو يقدم دراسة نفسية عميقة لشخصية "ترافيس بيكل " يقول فيها : ان هناك عوامل وظروف معينة ما إن تجتمع وتتفاعل مع بعضها البعض إلا وتنتج بالضرورة أشباه لـ " ترافيس بيكل " يصنعون عنفا أعمى لا يبقي ولا يذر.
لكن من هو ترافيس بيكل ؟!
ترافيس بيكل شاب محدود التعليم , مسالم , لا يبدو عليه ميل نحو العنف ، خدم جيش بلاده في فيتنام ثم انخرط فور عودته في العمل لإحدى شركات الأجرة المتخصصة كسائق تاكسي ، أتاح له عمله هذا رؤية العالم السفلي لمدينته نيويورك التي تشربت الفساد حتى غصت شوارعها بأرباب الرذيلة الشواذ والمومسات وصناع العهر والدعارة، فيشعر بالاشمئزاز واليأس و الإحباط من هذه الحقيقة التي أدركها، وهي أن بلاده، التي حارب من أجلها الأعداء في أبعد حدود الدنيا، سائرة إلى الحضيض في طريقها إلى الانهيار الأخلاقي التام بسبب سوس الفساد الذي ينخر جسدها من الداخل، إن العدو داخلي هذه المرة و أمر مقاومته ومكافحته من أوجب الواجبات . و بسبب طغيان تلك المناظر البشعة المقززة التي أصبح وجودها أمرا طبيعيا في شوارع مدينته تلمع في فكر " ترافيس " وللمرة الأولى فكرة تغيير المجتمع وتطهيره من هذا الوسخ الذي ألم به، ونستشف ذلك من عبارته التي قالها في بدايات الفيلم: " يوماً ما .. يوماً ما سيأتي مطر حقيقي ليجرف كل هذه القذارة ".
هذه الكلمات توحي كذلك بأن ترافيس لا ينوي القيام بعملية التغيير بنفسه بل إنه يعقدها على " شخص ما " سيأتي في " يوم ما " بالمطر الذي سيجرف كل هذه القذارة، هو يؤمن بوجود أو قدوم هذا الشخص المغير، لذلك هو ينتظر ولذلك أيضاً تظل الفكرة في ذهنه مجرد فكرة لم ترق بعد إلى طور العقيدة، ويصدق إيمانه حينما يرى شخصين يبدوان طاهرين، الأول شابة حسناء رأى فيها ملاكاً بريئاً، أما الثاني فهو المرشح الرئاسي الذي وعده بأن يطهر البلد مما يدعوه ترافيس " الوسخ الذي اعتلى الأرصفة ".
لقد شعر ترافيس أن هذين الاثنين، بطيبتهما وطهرهما هما من سيجلب المطر الموعود المنتظر، لكنه حال اقترابه أكثر من تلك الفتاة اكتشف أنها لا تختلف عن البقية وكذلك كان الرجل السياسي الذي أدرك أنه لا يمنح سوى الأكاذيب, و من هنا خاب أمله في الجميع, و أصبح المجتمع بجملته في خانة أعدائه - إنهم أعداء الفضيلة، كلهم - و تترسخ فكرة التغيير في نفسه أكثر خاصة بعد تغلغله في هذا العالم الفاسد واحتكاكه بمن يراهم فاسدين كالقواد هارفي كيتيل، وصديقته، والرجل السياسي، وأخيراً ذلك الرجل الذي يراقب زوجته وهي تخونه، هنا يشمئز، هنا ييأس، ويعلن سأمه من هذه القذارة، فتتحول فكرته التطهيرية إلى يقين وعقيدة تستوجب الأخذ بها في الحال والا لعم الفساد وطم, و لذلك ينتفض ترافيس وينفجر انفجاراً مزلزلاً، يتناسب في حدته مع تلك الغفلة التي يعيشها المجتمع .
إن عظمة فيلم سائق التاكسي تكمن في هذا التمهيد وهذا البناء المحكم من كاتب السيناريو الشهير " بول شرودر" الذي يمهد ويقدم كل ما يجعل من انفجار ترافيس بيكل منطقيا ومقبولا، هو لا يستعجل ردة فعل ترافيس ولا يستجديها، إنما يسير الأمور بشكل متزن ومعقول حتى إذا توافرت القناعة لدى المشاهد وترسبت من أن لحظة الانفجار باتت قريبة، جاء بها وقدمها له في وقتها تماماً دون أدنى شعور بوجود مبالغة أو ابتذال وإقحام . إنه يقدم كل المبررات التي تجعلنا نتفهم الانقلاب الفكري الحاد الذي أصاب ترافيس بيكل.
إن عظمة فيلم سائق التاكسي تكمن في هذا التمهيد وهذا البناء المحكم من كاتب السيناريو الشهير " بول شرودر" الذي يمهد ويقدم كل ما يجعل من انفجار ترافيس بيكل منطقيا ومقبولا، هو لا يستعجل ردة فعل ترافيس ولا يستجديها، إنما يسير الأمور بشكل متزن ومعقول حتى إذا توافرت القناعة لدى المشاهد وترسبت من أن لحظة الانفجار باتت قريبة، جاء بها وقدمها له في وقتها تماماً دون أدنى شعور بوجود مبالغة أو ابتذال وإقحام . إنه يقدم كل المبررات التي تجعلنا نتفهم الانقلاب الفكري الحاد الذي أصاب ترافيس بيكل.
و باختصار فإن فيلم " سائق التاكسي" ومن خلال شخصية ترافيس بيكل جاء ليقول ان العينات الشبيهة بترافيس موجودة في المجتمع، أي مجتمع , ربما تكون نواياها طيبة، ربما , لكنها عينات عنيفة مدمرة إذا ما انفجرت، تسير دون هدي ودون أن تعقل شيئا . هذه العينات الآن خاملة، لكنها تنشط في بيئة لها شروط ثلاثة ، أن تكون مضمخة بالفساد، أن تكون خالية عديمة الشخص الذي يتصدى لمهمة الدفاع عن الفضيلة، أن يتوفر شخص يائس فاقد الأمل يعيش عزلة روحية عن مجتمعه .العظيم مارتن سكورسيزي عبر مشكاته النيويوركية هذه يقدم النصائح للأمريكيين بجزالة و بطريقة غير مباشرة يقول: يجب على المجتمع أن يقوم بمهامه كاملة تجاه المحافظة على القيم والفضائل والأخلاق، يجب أن يقطع الطريق على أشباه ترافيس، يجب أن لا يوفر المناخ الملائم لتنشيطهم وإحيائهم وتفريخهم.. متى ما تقاعسنا ، متى ما تشربنا الفساد ، لابد أن يظهر ترافيس .. هكذا ببساطة ، واحد زائد واحد يساوي اثنين !
بقلم العضو السينما ئي - منتدى سينماك @
👍🏻
ردحذف