سيناريو و اخراج : Jim Jarmusch
بطولة : Johnny Depp - Gary Farmer
عندما يصل وليام بليك (جوني ديب) إلى وجهته حيث بلدة "ماشين" يخبره "جون ديكنسون" (روبرت ميتشوم) صاحب مصنع الأدوات المعدنية أن وظيفة المحاسب التي أرسلوا إليه بخصوصها قبل شهرين شغلها محاسب آخر. وبعد دخوله إحدى الحانات لشراء زجاجة ويسكي صغيرة بآخر ما تبقى معه من نقود يصادف بليك عند خروجه فتاة تدعى "ثيل" كانت تعمل عاهرة وتتعيش الآن من بيع الزهور الورقية، وبعدما تتعرف عليه تدعوه لقضاء الليلة في حجرتها. وفي وقت متأخر من تلك الليلة يحضر "شارلي" خطيب "ثيل" فيكتشف وجود بليك في سرير حبيبته، وبعد حوار قصير يطلق "شارلي" النار على بليك ليقتله فتقتل ثيل بدلا من بليك بعدما ألقت بنفسها عليه لتحميه من القتل، فلا يجد بليك أمامه، بعدما استقرت الرصاصة في كتفه، إلا أن يطلق النار على "شارلي" فيرديه قتيلا، دون أن يعلم أن "شارلي" هذا ابن "ديكنسون". يفر بليك هاربًا من شباك النافذة ويغادر البلدة بعدما تغير حاله عنه في بداية الفيلم، فقد دخل تلك البلدة كرجل مسالم جاء ليستلم وظيفته ويستقر ويبدأ حياته لكنه في نفس ذات اليوم يفر من تلك البلدة قاتلا ملطخة يداه بالدماء، يعاني من جرح قاتل بعدما استقرت الرصاصة بجوار قلبه، وفوق كل هذا يجد نفسه متهمًا أيضًا بسرقة حصان "شارلي" الذي امتطاه بعد سقوطه من النافذة، دون أن يعرف أن هذا الحصان من أجود وأغلى سلالات الخيول، وأن "ديكنسون" لن يهدأ له بال حتى يستعيد الحصان، وكأن ذلك الحصان أغلى من دم ابنه.
في اليوم التالي نشاهد بليك في الغابة وقد تمدد على الأرض وقد غاب عن الوعي وبجواره شخص هندي يدعى "لا أحد" (نو بدي)، الممثل (جاري فارمر)، يحاول استخراج الرصاصة من كتفه دون أن يفلح في هذا. وبعدما يتعرف عليه نو بدي ينشأ بينهما سوء تفاهم، فنو بدي يعتقد أن بليك هو الشاعر الإنجليزي الكبير "ويليام بليك"، وبليك ينفي هذا بالطبع، ويصارحه بأنه لا يعرف شيئًا عن هذا الشاعر ويظن للحظة أنه مجنون، وفي النهاية تتوطد بينهما عرى الصداقة بعض الشيء، ويساعده نو بدي على الفرار عبر الغابات والابتعاد صوب الساحل الشمالي الغربي، وبذلك خرق نو بدي الاقتباس الذي افتتح به جارموش الفيلم وهو لهنري ميشو: "من الأفضل ألا تسافر مع رجل ميت"، وهو ما أخبره به نو بدي نفسه: "أنت رجل ميت". وبالتالي نجد أننا في الربع الأول من الفيلم ليس أمامنا سوى متابعة رحلة موت ويليام بليك المقدرة سلفًا منذ تلك اللحظة. في تلك الأثناء يتبين لنا أن ديكنسون قد استأجر ثلاثة من المجرمين العتاة لاقتفاء أثر بليك واستعادته أو التخلص منه واسترداد الحصان، ومنذ خروج الرجال الثلاثة لملاحقته يبدأ فيلم جارموش بالفعل، فنجد أنفسنا نتابع خطوة تلو الأخرى، تقفي الرجال الثلاثة خطى بليك والأماكن التي يتواجد فيها، فتارة نحن مع بليك ونو بدي وتارة أخرى مع الرجال.
ثمة حوار قصير في افتتاحية الفيلم عندما يكون بليك على متن القطار يدور بينه وبين وقّاد القطار أظن أنه يلخص على نحو شعري الفيلم برمته أو ما رغب جارموش في قوله عبر رحلة بليك، يقول الرجل: "انظر خارج النافذة... ألا يذكرك هذا عندما تكون في قارب، وبعد ذلك، أثناء الليل وأنت ممدد وتتطلع إلى الفضاء فتسأل نفسك: "لماذا يتحرك الفضاء، بينما القارب لا يتحرك؟"" ومثلما بدأ الفيلم برحلة لبليك مستقلا القطار ومتجهًا إلى حيث بداية حياة جديدة يختتم الفيلم وبليك مسجى في زورق يطفو به إلى عمق المياه حيث نهاية حياته الجديدة التي لم تبدأ.
يتخذ الفيلم الذي تدور أحداثه أواخر القرن التاسع عشر في الغرب الأميركي من قالب الويسترن شكلا له، لكنه ويسترن مختلف دون شك عن كل الويسترن الذي شاهدناه من قبل، إنه ويسترن في أكثر صوره تقشفًا وابتعادًا عن المعتاد، فلا وجود فيه للعصابات والصراعات بينها أو قطاع الطرق أو المدن والبلدات المعتادة بكل ما يدور داخلها أو حفلات إطلاق للنار دون توقف إلخ، إنه ويسترن من النوع الذي رغب أندريه تاركوفسكي ذات يوم في إخراجه. وهذا هو ما يؤكده جارموش نفسه قائلا: "الويسترن كنوع سينمائي لا يهمني ولا يهمني أن أصنع ويسترن على طريقة "جون فورد" الذي أمقت الويسترن الذي قدمه. فأنا أحب ويسترن "نيكولاس راي" أو "روبرت وايز" على سبيل المثال". من ناحية أخرى، بإمكاننا أيضًا إدراج هذا الفيلم ضمن أفلام سينما الطريق، لكن الفيلم أتى مغايرًا لنهج أفلام الطريق وحتى لتلك التي أنجزها جارموش نفسه من قبل، حيث نجد هنا انتفاء لعناصر برزت من قبل في أفلام سينما الطريق عند جارموش، وأهمها في هذا الفيلم وجود الرحلة لكن مع إدراك نهايتها، بمعنى أن معظم أفلام الطريق يهيم أبطالها على وجوههم دونما هدف أو غرض نهائي من الرحلة سوى الترحال ذاته، أما هنا في "رجل ميت" فقد بدأت والبطل يعرف لماذا يسافر، وبعد ذلك، يعرف مما يهرب ولماذا وإلى أين سينتهي به المطاف في النهاية.
اعتمد جارموش اعتمادًا أساسيًا في تنفيذه لهذا الفيلم على تقنية المونتاج المتوازي. ومن المتعارف عليه فنيًا، أن معظم المخرجين الكبار لا يحبذون توظيف المونتاج أو اللجوء إليه كثيرًا، فما بالنا بتقنية تعد من أضعف التقنيات السينمائية في نظري وهي المونتاج المتوازي المستخدمة عند "جريفث" على نحو جلي، والضاربة بجذورها في سينما ما قبل جريفث أيضًا، إلا أن تلك التقنية الضعيفة فنيًا تبدو لنا في هذا الفيلم مختلفة كلية وليست مزعجة على الإطلاق، والسبب في هذا أن جارموش نجح بالفعل في أن يجعلنا لا نكاد نشعر على الإطلاق باستخدامه الرتيب لتلك التقنية أو بإفراطه في توظيفها وذلك لفرط تمكنه من تصوير نفس الأماكن التي قام بتصويرها من قبل مع إدخال بعض التبديلات أو التغييرات في حجم اللقطات أو زوايا التصوير والعدسات التي صورت بها تلك الأماكن بحيث تبدو لنا على نحو مختلف، هذا بالإضافة إلى مراعاته عند تصوير تلك الأماكن لعنصر الإضاءة حتى يبدو للمتفرج أن الوصول إليها من جانب المتعقبين جاء بعد فترة من مغادرة بليك ونو بدي. وتبدل الأماكن أو النظر إلى نفس الشيء بطرق مختلفة مبدأ يقف خلف كل أعمال جارموش السابقة، وقد أتى توظيفه المتعمد في هذا الفيلم ليشبه التكرار في الشعر أو القافية. أما الكاميرا فغير ملحوظة في الفيلم، ولا يكاد المتفرج يشعر بوجودها، لأن حركتها غير لافتة للانتباه على الإطلاق. ومن ثم، نجد أننا في النهاية، رغم بنية الفيلم الكلاسيكية التي تبناها جارموش دون أدنى رغبة من جانبه في التجريب، وتوظيفه لتقنيات تقليدية في الانتقال بين المشاهد دون أي تعقيدات، قادرين بالفعل على متابعة الفيلم باهتمام والتفاعل معه ومع إيقاعه وتقنياته باستمتاع بالغ ومن دون أي إزعاج.
أما حبكة الفيلم فقد أجاد جارموش بالفعل في تجريدها من الارتكان إلى الدراما بصورتها المعتادة، ونجح بالفعل في أن يكمل فيلمه دونما حاجة تقريبًا إلى الدراما منذ الربع الأول من الفيلم، لأننا ندرك جيدًا من أول نصف ساعة ما الذي سنتابعه وما الذي سينتهي إليه الفيلم، وأننا سنتابع رحلة ويليام بليك إلى موته المقدر سلفًا حتى في عنوان الفيلم ذاته، وأننا بصدد مطاردة وإطلاق نار وقتل، وأن كل ما سبق من الفيلم كان بغرض التمهيد لهذا كله.
وقد أتت نوتة الفيلم الموسيقية – وهي رائعة بمعنى الكلمة – التي كتبها المؤلف الموسيقي البارع "نيل يونج" لتؤكد على هذا المعنى أيضًا، فهي لا تكاد تتغير أبدًا، وتتكون من تيمة ثابتة متكررة على الجيتار الكهربائي مع تنويعات طفيفة عليها. وعليه فإننا نجدها تخدم الإيقاع المونتاجي المستخدم إلى حد كبير، لدرجة أننا مع تقدم الفيلم نعرف أن بدايتها أو نهايتها تمثل بداية أو نهاية مشهد. وبالرغم من أن توظيف تلك التيمة المتكررة التي تكاد تكون منبتة الصلة تمامًا مع ما يدور على الشاشة من أحداث – ليست هناك تيمات، مثلا، تنذرنا بالخطر أو تسهم في إبراز لحظات بعينها أو تعميقها، إنها لا تتفاعل حتى مع ذلك الكم الهائل من إطلاق النار أو القتلى على الشاشة – إلا إننا لا نشعر بالملل منها على الإطلاق وربما السبب الأساسي في ذلك مرده إلى طريقة عزفها الرائعة التي تكاد تشبه تمامًا ارتجال شخص لضربات على أوتار جيتاره.
أما التكوينات التصويرية المذهلة للمصور "روبي مولر" فكانت غاية في الروعة والجمال. ولن يخامر المتفرج للحظة أدنى شك في أن ذلك الفيلم يدور بالفعل في القرن التاسع عشر في الغرب الأمريكي، وسيشعر أثناء مشاهدة الفيلم كأنه يقطع الغرب فوق صهوة جواد مع أبطاله. والجميل أن تكوينات "روبي مولر" جعلت جميع الكادرات تقريبًا تشبه إلى حد كبير تلك التي التقطها المصور الفرنسي البارع "كارتييه بريسون" أو تلك التي للمصورين الأميركيين القدامى المتميزين مثل "ووكر إيفانز". وبالرغم من أن الفيلم بالأبيض والأسود، وهو أمر غير بعيد عن أفلام جارموش، إلا أنه ليس كغيره من أفلامه السابقة، فهو مختلف كلية إلى حد مذهل ويرجع هذا إلى أن التنويعات الرمادية بدرجاتها المختلفة أحسن توظيفها لدرجة أنها أضفت على الفيلم نبرة جلعته مغايرًا ومميزًا حتى عن جميع أفلام الأبيض والأسود التي نفذت قبل فيلم "رجل ميت".
هذا فيما يتعلق بالتقنيات المستخدمة في الفيلم، لكن ماذا عن محتوى أو مضمون الفيلم ذاته؟ سأبتعد هنا عن التفسيرات التي ساقها البعض لتأويل مضمون الفيلم من حيث أنه يعزف على موضوع الثقافتين الأمريكية والهندية أو التقابل بينهما أو تدمير الأولى للثانية إلخ، وأتطرق إلى مناقشة تفسير البعض للفيلم كاستعارة لمقولة إن الحياة عبارة عن رحلة، وبالطبع الفيلم كذلك في معناه المطلق. لكن الرحلة هنا في ظني تتعارض مع البيت الشعري القائل بأنه ليس لنا أن نختار البداية ولا النهاية ولكن المسافة بينهما. صحيح أن بليك كلما تقدم في الفيلم صارت رحلته أكثر روحانية وتأملية إلى حد ما، إلا أنها في النهاية رحلة غير متعمدة، لا دخل للبطل فيها، فحياته هنا عبارة عن فرخ ورقي أبيض تكتب فوقه جميع شخصيات الفيلم، باستثناء بليك نفسه، مصيره. تلك الشخصيات التي تتحكم في مصيره هي التي حولته، أو ربما الظروف أو الأقدار، من شخص مسالم بريء الملامح يفزع عند سماعه لإطلاق الرصاص ولا يعرف كيف يطلقه في بداية الفيلم، حولته إلى مجرم عتيد مخيف لا يتورع عن إطلاق النار ببراعة وبجميع أنواع الأسلحة ويعمد إلى تلطيخ وجهه بالدماء قرب نهاية الفيلم، لنجد أنفسنا في نهاية الفيلم لا نعرف كم عدد القتلى الذين قتلهم بليك. إنه في النهاية رجل اضطرته الظروف أو بالأحرى أجبرته على الاستسلام لمصيره، فلا نجده يختار المسافة بين البداية أو النهاية ولا يترك نفسه حتى ليعيش كأبطال أفلام الطريق، فهو لا يتمتع بحس وجودي متمرد مثلهم، إنه مجرد شخص مستسلم تمامًا لمصيره وقدره. فهو، على سبيل المثال، لم يسأل قط منذ إصابته عن مكان يلجأ إليه أو طبيب يداويه أو قطار يستقله ليهرب من قدره وينجو بنفسه من مصيره الذي أطلعه عليه نو بدي، والأدهى من ذلك كله أنه ليس منزعجًا على الإطلاق من أن بينه وبين الموت خطوات بسبب إصابته الخطيرة. فقط الزروق هو كل ما سأل عنه قرب نهاية الرحلة/الفيلم، ذلك الزروق/النعش تمدد فيه، بعد ذلك، عن طيب خاطر وكأن رحلته كلها كانت بحثًا عنه. لكن هل معنى هذا أن بليك شخص سلبي؟ والإجابة لا بالتأكيد، لكنه أيضًا ليس رجل أفعال، ولا رجل استسلام أو حتى رجل يبحث عن خلاص روحي، إنه ببساطة شخص انجرف مع التيار، شخص تصادف وجوده وسط كل هذا رغمًا عنه، شخص يعيش الحاضر دون رغبة إو إيمان من جانبه بقدرته على تغييره، وليس هذا كله بدافع اليأس. إنه خير تجسيد لمعظم شخصيات الكاتب الأمريكي الكبير "بول بولز"، ولذلك، في اعتقادي، لا يمكننا التعاطف معه أو إدانته. وهنا بالتحديد، في تصوري، يكمن جمال تلك الشخصية. والأمر نفسه ينحسب أيضًا على شخصية نو بدي، ذلك الهندي الذي هو ليس هنديًا خالصًا أصوله هندية وأميركية أنجليزية، تجمع شخصيته بين الطيبة والقسوة، الرقة والضعف، وأيضًا الهمجية (يذبح أحد الأشخاص ببرود) والمدنية (متعلم، ويلقى قصائد ويليام بليك بشاعرية تثير الإعجاب)، ينطق بالحكمة (عندما يأخذ نظارة بليك، على سبيل المثال، يخبره أنه سيرى أفضل من دونها) وبالحماقة (كثيرًا ما ينطق بكلام غير مفهوم، ويقول عن نفسه إنه يتحدث كثيرًا ولا يقول شيئًا). إنه بحق من أجمل الشخصيات الهندية التي ظهرت على الشاشة في أي وقت.
بالرغم من مرور فترة طويلة على إخراج هذا الفيلم، وبرغم تكرار مشاهدته، إلا إنه في ظني سيبقى لفترة طويلة من أجمل أفلام الويسترن التي شاهدها الأمر في أي وقت، وسيظل أيضًا من أجمل أفلام المخرج جيم جارموش.
للكاتب \ محمد هاشم عبد السلام
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق