الأحد، 6 مايو 2007

شارلي كوفمان




من النادر أن تجد جواباً غير نظرات الحيرة عندما تسأل حتى المهتمين بالسينما عن أي من كتّاب السيناريو. ففي عالم يعتمد على السيناريو والإخراج والأداء يحصل الممثل على الشهرة ويحوز المخرج الثناء بينما يقبع السيناريست في خنادق التجاهل بعيداً عن واحات الشهرة والمجد وكأنما كان هذا عرفاً سائداً في عالم السينما.

منذ فيلمه الأول عام 1999 لا يزال شارلي كوفمان ممسكاً بمعول عبقريته ليكسر تلك القاعدة وليتبوأ مكاناً لم يسبقه إليه أي سيناريست بدخوله قائمة أكثر 100 شخص قوة ونفوذاً في هوليوود.

بدأ شارلي كوفمان الكتابة مبكراً فمسرحياته الصغيرة عندما كان طالباً كانت تلاقي استحسان زملائه. خرج من جامعته في بوسطن ليلتحق بجامعة نيويورك ويدرس السينما هناك وأخذ يبحث لاحقاً عن فرص ليعرض أيا من كتاباته لأحد المسؤولين في هوليوود لكنه لم يفلح، فخطر على باله أن يشترك في كتابة مسلسل تلفزيوني ليكتسب شهرة بسيطة تسهل عليه الحصول على فيلمه الأول، ظل يتصل أسبوعياً ولأكثر من سنة كاملة ليتابع ما إذا قرأ البعض شيئاً من نصوصه حتى تم قبوله ككاتب عام 1990 مع المسلسل الكوميدي Get A Life أعقبه بثلاث مسلسلات أخرى. خلال تلك الفترة أخذ كوفمان بكتابة سيناريو لأفلام أرسل أحدها لمخرج فيلم «العرّاب» فرانسيس فورد كوبولا الذي وجد في نص كوفمان المسمى «أن تكون جون مالكوفيتش» Being John Malkovich فكرة ذكية عرضها على زوج ابنته المخرج الشاب سبايك جونز الذي بمجرد انتهائه من قراءة النص بادر بالاتصال بكوفمان ليعرض عليه أن يقوم هو بإخراج الفيلم.

لم تمنع ميزانية فيلم «أن تكون جون مالكوفيتش» المنخفضة البالغة 13 مليون دولار فقط من أن يقف معظم النقاد احتراماً لهذه العبقرية التي أعادت لنصوص هوليوود شيئاً من هيبتها. يتناول الفيلم قصة محرك دمى أطفال (أراجوز) في الشارع (قام بالدور الممثل جون كيوزاك) يعاني من اضطرابات في حياته الشخصية والاجتماعية يستجيب لطلب وظيفة لشركة اتخذت مقراً لها في الدور (السابع والنصف!) من أحد المباني ليكتشف فيها فتحة صغيرة يدخلها لتنتهي به في رأس الممثل جون مالكوفيتش فيرى ما يراه ويحس بما يشعر به مالكوفيتش. تقنعه زوجته بأن يستغل هذا الأمر تجارياً فيبدأ السماح للبعض بالدخول في عقل مالكوفيتش في جولة مدتها 15 دقيقة مقابل مبلغ من المال. يعلم مالكوفيتش عن الأمر فيجره فضوله هو الآخر للدخول في عقله هو. الفيلم مليء بالغرائب والمنحنيات المذهلة التي جعلت الكثير من النقاد يضعونه أفضل أفلام السنة وأحد أفضل أفلام العقد. ترشح كوفمان لأوسكار أفضل سيناريو أصلي لكنه خسر أمام آلان بال في «الجمال الأميركي».

عاد كوفمان في «طبيعة بشرية» Human Nature عام 2001 مع المخرج الفرنسي ميشيل قوندري الذي يقوم فيه عالم مهووس (تيم روبينز) بمحاولة إعادة إجبارية لشاب نشأ في غابة ومع الحيوانات إلى الحضارة أو الإنسانية كما يراها. حاز الفيلم على جائزة الآمال الكبيرة في مهرجان ميونخ السينمائي رغم أن أرباحه في دور العرض لم تصل المليون دولار.

عقد بعد ذلك كوفمان اتفاقاً بكتابة اقتباس لرواية الكاتبة سوزان اورليان الناجحة المسماة «سارق الأوركيد»، التي تتحدث عن شخص مهووس بزهور الأوركيد النادرة يقوم بسرقتها من المحميات الطبيعية باستخدام ثلاثة من الهنود الحمر الذين لا يطالهم القانون. القصة جميلة لكن تحويلها لفيلم أمر صعب فهي مليئة بالمعلومات عن الزهرة لكنها خالية من الخطوط الدرامية. جلس كوفمان ما يقارب الأربعة أشهر لم يستطع فيها كتابة صفحة واحدة حتى كاد أن يؤمن بأن مستقبله ككاتب قد انتهى. لكنه قرر فجأة أن يتناول معاناته هو ككاتب في تحويل الرواية لفيلم فظهر لنا فيلم «اقتباس» Adaptation عام 2002 الذي جلب له ترشيحه الثاني للأوسكار لكن لنص مقتبس هذه المرة. في هذا الفيلم الذي أخرجه سبايك جونز أيضاً خلط كوفمان الحقيقة بالخيال ومزجهما بشكل فريد، حيث جعل له أخاً توأماً (قام بالدورين الممثل نيكولاس كيج وترشح عنهما لأوسكار أفضل ممثل) وأشرك هذا الأخ الخيالي (دونالد) في كتابة سيناريو الفيلم كما جعل الفيلم مهدى لذكراه في الخاتمة. الطريف أن هذا الأخ الخيالي (دونالد) ترشح مع شارلي لجائزة أفضل سيناريو في كل من القولدن قلوب والأوسكار. في نفس العام خرج فيلم «اعترافات عقل خطير» Confessions of A Dangerous Mind. أخرج الفيلم الممثل الشهير جورج كلوني وهو عن شاب قام بخلق برنامج تلفزيوني ناجح يتم تجنيده لاحقاً من قبل المخابرات المركزية الأميركية ليقوم باغتيالات لصالحها. ذكر كوفمان مرة أن هذا الفيلم كان مكتوباً قبل فيلمه الأول «أن تكون جون مالكوفيتش».

ما أن عرض المخرج ميشيل قودري على الممثل جيم كيري بأن يقوم ببطولة فيلم شارلي كوفمان الجديد حتى وافق مباشرة قبل أن يقرأ النص، بل وافق على خفض أجره الاعتيادي (20 مليون دولار للفيلم) كون هذا المبلغ يساوي الميزانية الكاملة لفيلم «إشراقة أبدية لعقل نظيف»Eternal Sunshine of the Spotless Mind والذي يتلقى فيه كيري رسالة من شركة تخبره بأنه قد تم مسح جميع الذكريات المتعلقة به في عقل حبيبته السابقة (كيت وينسلت) خلال عملية طلبت أن تخضع لها مما يجعله يحاول خوض نفس التجربة، لكنه يتردد بعد فوات الأوان فيحاول التشبث بآخر تلك الذكريات. الفيلم لاقى ترحيباً شديداً من النقاد.

وقد يكون كوفمان أكثر كتاب هوليوود طلباً ونفوذاً وأكثرهم شهرة رغم حرصه المبالغ في ألا يظهر على شاشات التلفزيون أو أن يتم تصويره وقد يرى فيه الكثير من النقاد الملعقة التي ستقلب موازين هوليوود، لكن هذا لم يشفع له عند عامة الجمهور الذي قد يرى في أفلامه الكثير من التعقيد والغموض مما أدى لإعراضه عن أفلامه التي بلغ متوسط أرباح الواحد منها عشرين مليون دولار، وهو مبلغ ضئيل في زمن «سبايدر مان» و«سيد الخواتم».

عُرف كوفمان بحرصه الشديد على مرافقة المخرج خلال سير الفيلم، فهو على حد قوله يجب أن يتأكد بأن ما كتبه سيصل للمشاهد كما أراده هو، وقد أعطاه كل من جونز وقودري الكثير من الصلاحيات، لكن جورج كلوني كان له رأي آخر فطلب منه عدم التدخل وهو الأمر الذي جعل كوفمان يعترف بأن «اعترافات عقل خطير» كان أقل أفلامه قرباً إلى نفسه. تميز شارلي كوفمان بإتقان الطرح والمهارة في رسم المنحنيات الهامة في سياق القصة بطريقة مبتكرة تبرأ فيها عن كل ما هو تقليدي. أولى اهتماماً أكبر لشخصياته فدرسها وغاص في أعماق مخاوفها وشكوكها في خليط أخاذ بين الحقيقة والخيال. على عكس بقية كتاب هوليوود، الحب عند كوفمان يأتي لاحقاً، فالاضطراب النفسي وعدم الرضا عن الذات يسيران بتلك الشخصيات بعيداً عن علاقات عاطفية ناجحة. لا يعتبر كوفمان شخصياته مجانيناً، قد تشوبهم الغرابة لكنه يوازن بحذر فلا يوصل تلك الغرابة لمستوى الهزل.

يقول كوفمان: «الناس دائماً يقولون إنه لن يكون هنالك أي شيء جديد فلم نتعب أنفسنا؟ أما أنا فأظن أن أحد أهدافي هو مواصلة المحاولة لمعرفة ما إذا كان هنالك شيء جديد». أيها السادة.. هذا هو الكاتب العبقري المثابر الذي سيظل يبحث عن كل ما هو مبتكر.. هذا هو شارلي كوفمان.


بقلم \ عبد الله ناصر القحطاني

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق