الأربعاء، 15 أغسطس 2012

بابل.. تحفة غونزاليس..


قبيل نهاية العام 2001 قام المنتج الفرنسي (ألين بريغاندا) بالاتفاق مع أحد عشر مخرجاً عالمياً من أجل أن يصنع كل واحد منهم فيلماً قصيراً يحكي فيه انطباعه عن هجمات سبتمبر في مدة لا تزيد ولا تنقص عن إحدى عشرة دقيقة وتسع ثوانٍ و(فريم) واحد، فكانت النتيجة باقة متنوعة من الأفلام القصيرة جُمعت تحت عنوان واحد هو ( 11′09”01 - September 11 ).

وضمن هذه الباقة كان هناك فيلمٌ للمخرج المكسيكي المتميز (أليخاندرو غونزاليس) صوّر فيه لحظة انهيار مركز التجارة العالمي بأسلوب جميل وجريء ألغى فيه عامل الصورة واعتمد على شاشة سوداء لا يتغير فيها سوى الصوت فقط، حيث لا نرى إلا السواد ولا نسمع إلا جلبة الناس المرعوبين وضجيج المذيعين والأهم صوت انهيار المبنى نفسه، ثم عند النهاية ينقلب لون الشاشة لتصبح شاشة بيضاء.. ممهورة بعبارة.. تقول: (هل نور الله يهدينا أم يعمينا؟) ترافقها موسيقى مؤثرة وأصوات لأطفال يتلون القرآن الكريم. ومعنى الفيلم يبدو واضحاً ومباشراً لكن الجميل فيه هو القالب الذي احتوى هذا المعنى وقدّمه بأسلوب مختلف وبصبغة حداثية تجريبية تنزع نحو تطبيق المعايير الجمالية بمعناها المطلق، وهنا تحديداً نحن نتحدث عن السبب الذي جعل من المكسيكي (أليخاندرو غونزاليس) أحد أعظم المخرجين المعاصرين.

في السنة الماضية عاد (غونزاليس) بفيلمه الجديد (بابل-Babel) ليواصل ممارسة مشروعه الجريء المتمثل في كسر أساليب السرد التقليدية واستغلال كافة أدوات التعبير من صوت وصورة ولون ليجعلها تقول وتحكي بحرية وطلاقة، مع عناية مدهشة بالناحية الجمالية، وكما رأينا في ذلك الفيلم القصير كيف قام بتحييد عامل الصورة ومنح الصوت مساحة أكبر فهو في (بابل) يصنع ما هو أكثر من ذلك فيجعل حتى من (الصمت) شريكاً في التعبير، ولتكون النتيجة تحفة سينمائية بامتياز حقق من خلالها (غونزاليس) جائزة أفضل مخرج في الدورة الماضية لمهرجان (كان) السينمائي واقتحم ترشيحات الغولدن غلوب في دورتها الأخيرة فاستحق منها جائزة أفضل فيلم.

(أليخاندرو غونزاليس) المكسيكي الذي ولد عام 1963كان قد أعلن عن حضوره السينمائي بقوة ووضوح عام 2000 حين أدهش العالم بفيلم (أموريس بيروس-Amores perros) ثم أكد هذا الحضور عام 2003 بفيلم ( 21غراماً). أما مع (بابل) فهو يتوج هذه المسيرة بفيلم فخم امتزجت فيه القيمة الجمالية بالمعنى الإنساني الجليل.

الفيلم يحكي أربع قصص مختلفة تسير إلى جوار بعضها البعض في مسارات متوازية ومتداخلة تجري في أربعة دول هي المغرب وأمريكا والمكسيك واليابان. وتبدأ الأحداث في الصحراء المغربية مع عائلة فقيرة تعيش في العراء معتمدة على الرعي وتربية الأغنام، يشتري عائلها بندقية صيد كي يقتل بها الثعالب التي تهدد حياة قطيعه، لكن ابنيه الصغيرين يستغلان البندقية ليس لقتل الثعالب كما أوصاهما الأب بل لقتل الإنسان!. وعلى الجانب الآخر من الصحراء نفسها تجري أحداث الحكاية الثانية وأبطالها زوجان أمريكيان قدما إلى المغرب من أجل السياحة وإذا بهما يواجهان محنة عصيبة (يؤدي دورهما النجمين براد بيت وَكيت بلانشيت). أما الحكاية الثالثة فتجري بين أمريكا والمكسيك لعجوز مكسيكية تعمل خادمة في منزل عائلة أمريكية، تقرر الذهاب خلسة إلى المكسيك من أجل حضور زفاف ابنها الوحيد وتأخذ معها طفلي هذه العائلة دون علم والديهما. وفي اليابان تجري أحداث القصة الرابعة وهي لفتاة يابانية جميلة، عاطفتها حارة مشبوبة، وروحها تفيض حباً، لكنها لا تعلم إلى أين توجه هذا الحب، إذ لم تجد من يتجرأ ويقبلها كحبيبة لسبب بسيط هو أنها صماء بكماء تعيش في عزلة خانقة!.

 
هذا هو جوهر القصص الأربع التي سردها (غونزاليس) بأناقة وربط بينها بأسلوب ساحر وخلاب..

ليست هذه المرة الأولى التي يصنع فيها (غونزاليس) فيلماً بهذه الطريقة التي تمزج بين قصص وشخصيات مختلفة، فأسلوب كهذا رأيناه أيضاً في فيلميه السابقين (أموريس بيروس) وَ( 21غراماً)، لكن ما يميز فيلم (بابل) هو ذلك التباين الشديد بين أجواء القصص الأربعة، فإذا كان (غونزاليس) قد دمج في الفيلمين السابقين أكثر من قصة في وقت واحد، فهو قد فعل ذلك مع قصص تبدو متشابهة في أجوائها، وبالتالي فالأسلوب الذي يحكم فيلم ( 21غراماً) مثلاً، أو حتى (أموريس بيروس)، هو واحد منذ بداية الفيلم وحتى النهاية، وبإيقاع ثابت نسبياً، بينما نجد في (بابل) اختلافاً شاسعاً بين أجواء القصص وكذلك في الأسلوب الذي اتخذه (غونزاليس) لتصوير كل حكاية، فنراه يصور الأحداث التي جرت في المغرب بأسلوب واقعي صرف رضخ فيه لمتطلبات بيئة الحدث، أما في القصة التي جرت في اليابان فهو يسرح بحرية فاتنة، متجاوزاً بها الواقع، فيعبث بالصوت والصورة ويشكل الألوان حسب مقتضى الحكاية ليحقق بذلك (جمالية) فائقة تطرب لها عين المُشاهد..

على مستوى الفكرة يبدو الربط بين المسارات الأربعة مستفزاً ومعقداً، إذ ما الذي يجمع بين مُصيبة الراعي المغربي ومعاناة الفتاة اليابانية؟ هل هي البندقية فقط؟!. ليس الأمر بهذه البساطة، فـ(غونزاليس) لم يأتِ بهذه القصص الأربع لمجرد الربط في حد ذاته، بل من أجل أن يحكي فكرة واحدة تشترك فيها جميع القصص.. فما هي هذه الفكرة؟ وما علاقتها باسم الفيلم (بابل)؟!.

الرابط بين القصص الثلاث التي جرت في المغرب والمكسيك وأمريكا يبدو واضحاً نوعاً ما، ويسهل إدراكه، فهذه القصص تتلخص معاناة أبطالها في قضية الـ (أنا والآخر)، نلاحظ هذا في قصة الخادمة المكسيكية العجوز التي تتعرض هي وقريبها الشاب لمشكلة على الحدود الأمريكية بسبب الخوف والتوجس الناشئ عن أفكار ترسبت لدى جنود الجمارك عن (الآخر) المكسيكي، وكذا الأمر في قصة الزوجين الأمريكيين السائحين في الصحراء المغربية، وأيضاً بالنسبة للراعي المغربي الذي وجد نفسه متهماً بالإرهاب بسبب خطأ غير مقصود تسبب به ابناه الصغيران، ليلاحق بضراوة من قبل الجنود المغاربة المشحونين بأفكارهم المسبقة عن هذا الآخر الإرهابي. لكن ماذا عن الفتاة اليابانية التي لم تحتك بـ (آخر) جاء من حضارة مختلفة؟!.

إن الألم الذي تستشعره هذه الفتاة له سببه الواضح، فهي تشعر بفيض من العاطفة، وتبغي الحب مثلها مثل أي فتاة في عمرها، لكنها لا تجد المستجيب الذي يبادلها الحب بحب، ولو تأملنا قليلاً في معاناتها لوجدنا أنها تلخص فكرة الفيلم بامتياز وتؤكد قضية الـ (أنا والآخر). ذلك أن أزمتها ليست فقط مع (الآخر) المختلف، بل هي مع النوع الإنساني كله، مع المختلف وغير المختلف، مع الأجنبي ومع أقربائها سواء بسواء. إنها تعيش في عزلة خانقة فرضت عليها من قبل الطبيعة أولاً، ثم بسبب الأفكار التي يحملها البشر عن أمثالها، وهي وإن تمكنت من التكيف مع إعاقتها الجسدية، إلا أنها لا تستطيع العيش في مناخ ينبذها ويتوجس من وجودها. إن الجميع بالنسبة لها مختلفون، وكذا الأمر بالنسبة لبقية الشخصيات، فالمعاناة في (بابل) مصدرها تلك الأفكار التي تحكم نظرتنا تجاه بعضنا البعض كأفراد ودول ومجتمعات، وحتى عالم السياسة الذي يسحق الإنسان ويطحنه إنما يستمد قوته وبطشه من هذه الأفكار بعينها. إن الجميع هنا ضحايا، الراعي المغربي والخادمة المكسيكية والفتاة اليابانية، إنها معاناة الإنسان وألم الإنسان.. كل الإنسان.. الذي منذ أن انطلق من (بابل) لا يزال يمشي على درب الخيبة والألم!..

بقلم الكاتب \
رجا ساير المطيري

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق